بعد أربعة أيام على حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات جرت الاتصالات تباعا بين الرئيس عرفات والقيادة الفلسطينية لمواصلة اتصالاتها مع الأطراف الدولية.
وفي اليوم الثامن لحصار الرئيس عرفات في يوم الجمعة 5/4 كان مقررا أن يأتي المبعوث الأميركي أنتوني زيني لمقر الرئيس عرفات، تبادر لذهن البعض أن الجنرال زيني وهو مبعوث الرئيس الأميركي لن يأتي إلى المقر والدبابات الإسرائيلية تحاصره، بل أن احتمالية عالية بدأت تقترب لرفع الحصار، ولكن الحصار بقي مفروضا ولم تتزحزح الدبابات والمجنزرات عن البوابة الداخلية لمقر الرئيس.
الرئيس عرفات أدى صلاة الجمعة في غرفته، ولم يطلب من الطهاة إعداد طعام خاص كما جرت العادة إذا قدم أحد الضيوف الكبار للقائه وقت الطعام، وكيف يقدم الطعام وقوات الاحتلال تمنع دخوله إلى المقر.
وحضر الجنرال زيني إلى المقر الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا وهو محروسا بقوات كبيرة من جيش الاحتلال أوصلته إلى بوابة المقر.
استمر اللقاء مدة تسعين دقيقة بين عرفات والجنرال زيني، وكان من الواضح أن زيني كان لديه قائمة مطالب يدركها الرئيس عرفات مسبقا.
أعاد زيني في هذا الاجتماع مطالب شارون والمتمثلة أساسا في تسليم أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطيني أحمد سعادات، وخمسة أعضاء من الجبهة الشعبية وهم عاهد أبو غلمه المتهم بمسئوليته عن كتائب الشهيد أبو على مصطفي الجناح العسكري للجبهة الشعبية، ومجدي رحيمي المتهم بمسئول الخلية التي قامت بتنفيذ قتل وزير السياحة الإسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي، وحمدي قرعان المتهم بتنفيذ عملية القتل، وباسل الأسمر المتهم بالمساعدة في عملية القتل، أضافة إلى العميد فؤاد الشوبكي مسئول الادارة المالية لقوات الأمن الوطني، والمتهم في قضية سفينة الأسلحة (كارين أيه).
والمطلب الآخر الذي جاء به زيني هو إعلان الرئيس عرفات لوقف اطلاق النار.
عمليا الاجتماع لم يحرز أية نتائج على صعيد وقف العدوان الإسرائيلي، وكان ذلك متوقعا من الرئيس عرفات سيما وأن الجنرال زيني جاء إلى المقر في ظل تواصل الحصار الإسرائيلي لمقر الرئيس عرفات.
رأى البعض في قدوم زيني ولقائه مع عرفات وأن لم يحرز نتائج على صعيد وقف العدوان، هو العودة الأميركية للشرعية الفلسطينية مرة أخرى ممثلة بالرئيس عرفات، بعد أن كانت الإدارة الأميركية قد بدأت عمليا بالابتعاد عن إجراء أي اتصال مع القيادة الفلسطينية.
لكن بعد هذا اللقاء أمر الرئيس عرفات بتشكيل لجنة فلسطينية يترأسها الدكتور صائب عريقات لاستكمال المباحثات مع الجنرال زيني في القدس، والتي سرعان ما منعها الإرهابي شارون من مواصلة عملها عبر منع وصول الوفد الفلسطيني وعدم الأحتجاج الأميركي على ذلك.
في الحقيقة أن لقاء زيني مع الرئيس عرفات اعتبر مهما في شكله وليس في نتائجه، وهذا ما جعل من بعض المحاصرون يؤكدون أن بالإمكان القول الآن أن السكين ابتعدت عن الرقبة بضع السنتيمترات، بعد أن بدأت بالتعامل مع الرئيس عرفات مجددا، وأعلان صريح بفشلها أنها لم تستطع إيجاد بديل عن الرئيس عرفات كقائد حقيقي للشعب الفلسطيني.
طبعا استفاد المحاصرون من مجيء زيني بأن سمحت قوات الاحتلال إدخال أول كمية تموين لمقر الرئيس وبالتالي نام المحاصرون لأول مرة بعد أن تناولوا وجبه طعام وشربوا المياه.
ومضى شارون في سياسة تنفيذ مجازره في مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس، وبدأت الأخبار عن المجازر وأن كانت تصل بصعوبة إلى الرئيس عرفات إلا أنها بدأت تثير قلقا حقيقيا لدى الرئيس الذي بدأ يدرك أن المقصود هو تدمير شامل للشعب الفلسطيني ولتقويض السلطة الفلسطينية.
ورغم قتامة الأيام القادمة وصعوبتها، إلا أن عصر يوم الثلاثاء 9/4 وهو اليوم الثاني عشر للحصار كان يوما مختلفا، فقد دخلت البسمة إلى قلوب المحاصرين بعد سماعهم نبأ طلب قوات الاحتلال من المقاتلين في مخيم جنين وقف إطلاق النار بعد مقتل أكثر من (16) جنديا إسرائيليا وأصابة عشرات الجرحى في كمين نصبه المقاتلون لجنود الاحتلال في المخيم، مما ترك الأثر الطيب في نفوس المحاصرين الذين هم في شوق لسماع القصص البطولية التي يصنعها المقاتلون مخيم جنين.
وعلى الفور أعلن عن استنفار في المقر المحاصر لم أعرف سببه، ولكن من الواضح أنه أعلن تحسبا من ردات فعل إسرائيلية انتقامية قد تقوم بها.
في هذه الأثناء تبادلت مع اللواء إسماعيل جبر مدير الأمن العام وقائد قوات الأمن الوطني في الضفة الغربية الحديث عن ما يجرى من مجازر في جنين ونابلس، كان قلقا للغاية لمصير مخيم جنين، وخاصة بعد الأنباء التي أفادت عن وجود مجزرة تنفذها قوات الاحتلال في مخيم جنين .
اليوم الثالث عشر للحصار الأربعاء 10 ـ 4
سمع المحاصرون بوقوع عملية استشهادية نفذتها كتائب عز الدين القسام على طريق حيفا ـ القدس، وأسفرت عن مقتل عشرة جنود إسرائيليين، وتوقع المحاصرون أن تقدم قوات الاحتلال على إجراءات انتقامية ضد المحاصرين، وفعلا بعد أقل من ساعة كانت عدد من الطائرات الحربية الإسرائيلية من نوع (أف 16) تحلق على ارتفاعات مختلفة فوق مقر الرئيس عرفات.
تبادر لذهني لبعض الوقت أن جنون شارون وفاشيته قد تجعله يأمر الطائرات بأطلاق صواريخها على المقر، هذا الخوف مرده دعوات من الائتلاف اليميني الحاكم الإسرائيلي بقصف مقر الرئيس على من فيه، لم تمض ساعة بدأنا نسمع دوى أنفجارات في محيط الرئاسة، حيث كانت قوات الاحتلال تقوم بتفجير مقر الأمن العام ومبني الادارة المالية وبعد المباني الملاصقة لمقر الرئيس عرفات.
شعر الرئيس عرفات والمحاصرون بخطورة الخطوة الإسرائيلية، فعمليات التفجير تجرى على بعد أمتار قليلة، ولذلك استنفر حرس الرئيس وقوات أمن الرئاسة الـ(17) استعدادا لأي محاولة إنزال جوية يمكن ان تقوم بها قوات الاحتلال على سطح المقر أو من عمليات اقتحام للبوابات الداخلية لمقر الرئيس.
وبعد ساعة من الاستنفار صعد الرئيس عرفات إلى الطابق الثالث رغم خطورة الوضع، وبدأ يتمشى في قاعة المؤتمرات، وهو متجهم الوجه ويقول على مسمع الحرس ليتفرج علينا العرب كما تفرجوا علينا في حصار بيروت عام 1982 وقاطعه أحد المقاتلين من كبار السن بقوله رؤيتك بهذه العزيمة يحينا أخ أبو عمار وتبعث فينا الأمل فرد عليه بارك الله فيك.. ثم تابع سيره ليتفقد الحرس.. كما شجع الوفد الأجنبي. ومن عادة الرئيس عرفات أن يحمل معه في هذه الظروف رشاشا صغيرا.
التوتر ازداد واكفهرت الأجواء مع منع وفد لجنة المفاوضات الفلسطينية من الوصول إلى مقر الرئيس عرفات، ولكن بعد تدخل عدة أطراف دولية سمح للوفد بأن يدخل للمقر وهم محمود عباس أبو مازن أمين سر اللجنة التنفيذية، وياسر عبد ربه وزير الثقافة، وصائب عريقات وزير الحكم المحلي، والعقيد محمد دحلان رئيس جهاز الأمن الوقائي في غزة.
وكان الأكثر طرافة في هذا اللقاء أن الرئيس عرفات ورغم حصاره وشح طعامه أعد مائدة طعام لأعضاء الوفد.
وكان أعطى الوفد تعليمات بخصوص اللقاء مع المبعوث الأميركي الجنرال زيني في الساعة السابعة من مساء اليوم ذاته، الذي تناول الترتيبات لأعداد زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول.
أجواء اللقاءات الفلسطينية ـ الأميركية، والاستعداد لزيارة باول بعثت الأمل من جديد لفك الحصار عن مقر الرئيس، وبدأت الأجتهادات المقبولة المستندة إلى معطيات وكذلك غير المقبولة التي من الواضح ان الرغبة الذاتية كان مصدرها تسرى بين المحاصرين مع اقتراب زيارة باول للمنطقة، لكن هذه التأملات سرعان ما تلاشت مع التأكيد للقيادة الفلسطينية أن باول سيأتي إلى المقر والحصار عليه مستمر.
وفي ذلك اليوم تفاجأ المحاصرون من قيام قوات الاحتلال بإخراج جثة الشاب محمود فريد بواطنة 22 عاما من داخل الثكنة (منامة الجنود) التي كانت قوات الاحتلال دمرتها في اليوم الأول للحصار. والشاب محمود يعمل طاهيا لحرس الرئيس عرفات وفقد أثاره، وظن الجميع أن جنود الاحتلال تمكنوا من أسره، إلا أنهم أعدموه بدم بارد وقاموا بتفخيخ جثته التي بقيت طوال ثلاثة عشرة يوما داخل الثكنة.
في اليوم التالي الخميس وصل الأمن الأميركي المسبق صباحا لوضع ترتيبات لزيارة وزير الخارجية الأميركي باول التي كانت مقررة غدا الجمعة، وكنت مرهقا للغاية، فلليوم الثاني على التوالي لم يغمض لى جفن، فطوال الليلة الماضية وحتى فجر اليوم كان استنفارا متواصلا، واللواء اسماعيل جبر كان يتجول ويحث الحرس لرفع جاهزيتهم.. جلست القرفصاء أنظر من حولي.. ليل دامس يعم أرجاء المكان.. وهدوء لا يقطع سكونه سوى قرقعة السلاح.. وكنت أخشى أن تعم الفوضى خلال عملية إطلاق النار داخل الغرف والقاعات، ومع ذلك كنت من بين المستنفرين، ليس لأنني أحمل بندقية، بل لا أريد أن تصيبني رصاصة أو قذيفة وأنا مستلق على الأرض.
وصل الرئيس عرفات وبدأ يتفقد التحصينات، ولم يخلو الأمر من بعض التوجيهات للحرس ووضع المزيد من التحصينات، وفي هذه الأثناء أصر الرئيس عرفات أن يتوجه إلى بوابة السطح مما أثار قلق حراسه الشخصيين الذين حاولوا أن يشرحوا خطورة الوضع والموقف، لكنه أصر ووصل إلى بوابة السطح ليتفقدها بنفسه.
كان اليوم الجمعة 12/4 حدثا غير عاديا ومخيبا للآمال، فقد وصل وزير الخارجية المصري لمقر الرئيس ظهرا وهو مصحوبا بعدد من دوريات الاحتلال ويحمل معه بعض عصير المانجا وبعض عبوات المياه المعدنية مما أثار استياء لدى المحاصرين، ورغم ترحيب القيادة بزيارة ماهر الذي أطلع الرئيس عرفات على نتائج زيارة باول للقاهرة، إلا أن هذه الزيارة في مجملها كانت تعتبر في إطار المجاملة ليس إلا، فالوزير ماهر جاء وفقا للشروط الإسرائيلية لمقر الرئيس عرفات، ولم يقدم شيئا للمحاصرين في جنين أو المهد، ولم يحمل معه سوى رسالة تضامن من الرئيس حسني مبارك، وهذا ما عزز القناعة لدى الجميع بعمق حالة العجز العربي الرسمي عن فعل أي شئ لمساعدة الشعب الفلسطيني الذين يتعرضون لأباده جماعية.